تصريح لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حول إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة

صباح الخير، وشكراً لحضوركم.

 

أود أن أشارككم بعض ما رأيته وسمعته من الفلسطينيين والإسرائيليين في الأيام الأخيرة.

 

أنهيتُ للتو مكالمة هاتفية مع أحد زملائنا في رفح. لقد اضطر إلى الخروج بسرعة من مدينة غزة مع زوجته، وهي حامل في شهرها السابع، وطفليه الصغيرين وأفراد آخرين من عائلته، بعد أن دمر القصف الإسرائيلي مباني محيطة بهم. طفلاه، اللذان يبلغان تسعة وسبعة أعوام، يطرحان عليه أسئلة لا يعرف كيف يجيب عليها: “لماذا يحدث هذا لنا؟ ماذا فعلنا كي نستحق ذلك؟”

 

زميلة فلسطينية أخرى في فريق الأمم المتحدة في غزة روت لي كيف اضطرت للفرار في الساعة الواحدة صباحاً مع أطفالها للعثور على مأوى بعيداً عن منزلهم، لكنها تُبقي حقائبَها قريبة دائماً لأنها قد تضطر إلى الفرار مجدداً في وقت قصير. قُتلت قريبة لها أمس، وقتل أيضا أصدقاء مقربون لها أول أمس. المياه شحيحة والخوف منتشر. أعرب لي العديد من الزملاء الآخرين عن فجيعتهم بمقتل العشرات من أحبائهم خلال الشهر الماضي. كانت تلك للأسف رواية متكررة سمعتها خلال اليومين الماضيين.

 

وفي زيارة قصيرة إلى مستشفى العريش في رفح المصرية، رأيتُ العديدَ من الأطفال المصابين في غزة. كان هناك طفل عمره ثلاث سنوات وقد كُسرت ساقاه، وطفلٌ وطفلة يبلغ كلاهما خمسة أعوام مصابان بحروق شديدة، وطفلة في الثامنة من عمرها تعاني من إصابات في العمود الفقري، بالإضافة إلىى آخرين. هؤلاء هم الأطفال الذين يعتبرون “محظوظين”، إذ عانوا بشدة ولكنهم ما زالوا على قيد الحياة، ويتلقون العلاج الطبي المناسب.

 

وكما تعلمون، فقد قُتل نحو 4400 طفل في غزة خلال الشهر الماضي، حسب وزارة الصحة في القطاع. وربما لا يزال كثيرون آخرون محاصرين تحت أنقاض المباني التي تم قصفها. أكثر من 26 ألف شخص أصيبوا، وهم إما ليس بإمكانهم تلقي العلاج بسبب انهيار النظام الصحي في غزة، أو يواجهون احتمال الخضوع لعمليات جراحية من دون تخدير.

 

وسمعتُ أيضاً عن أشخاص من ذوي الإعاقة فقدوا مقدمي الرعاية لهم، وإمكانيةَ حصولهم على الأدوية الأساسية. كان على الناس اتخاذ قرارات مصيرية بشأن ترك أحد أفراد الأسرة من ذوي الإعاقة والمخاطرة بالتعرض للضربات في طريق الهروب، أو البقاء معهم والمخاطرة بالتعرض للقصف في المنزل.

 

كما سمعت مع نشطاء إسرائيليين مدافعين عن حقوق الإنسان، أنهم يشعرون بأسىً وغضبٍ شديدَيْن إزاء محنة المدنيين في غزة. ويشعرون أيضاً بالانزعاج مما يسببه ذلك لإسرائيل. في الواقع، ما قالوه لي – وأنا أقتبس: “لا يُسمح لنا بالتظاهر من أجل السلام. سنخرج من هذه الحرب بحرية أقلّ بكثير. لا نعرف أي نوع من المجتمع سينتج بعد أن ينتهي كل ذلك”. وسمعت من نشطاء فلسطينيين مدافعين عن حقوق الإنسان مخاوفهم بشأن ازدواجية المعايير. وشددوا على فشل المجتمع الدولي في الوفاء بالتزاماته بضمان احترام القانون الدولي الإنساني، واستخدام تأثير الدول لوقف المعاناة غير المعقولة للمدنيين وسط هذا الجنون.

 

إن الهجماتِ الفظيعةَ التي شنتها حماس ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر ينبغي أن تثير غضب كلّ واحدٍ منا. يجب أن تتم إعادة الرهائن إلى ديارهم، ويجب وقف إطلاق الصواريخ بشكل عشوائي على إسرائيل.

 

ولكن من الواضح أنه لا يمكن ضمان الأمن الدائم عبر ممارسة أفعال الغضب والألم والانتقام ضد أناس ليسوا مسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت – بمن في ذلك موظفو الأونروا الذين قُتلوا، وعددهم 99 شخصاً. هذا أمر غير مسبوق وشائن ومفجع للغاية.

 

إن للقصف الإسرائيلي المكثف على غزة، بما في ذلك استخدام الأسلحة المتفجرة شديدة التأثير في المناطق المكتظة بالسكان، وتسوية عشرات آلاف المباني بالأرض، تأثيراً مدمراً على الوضع الإنساني وحقوق الإنسان. بعد أربعة أسابيع من القصف الجوي والمدفعي من قبل القوات الإسرائيلية في غزة، أصبحت الآثار العشوائية لهذه الأسلحة في منطقة مكتظة بالسكان واضحة. على إسرائيل أن توقف فوراً استخدام مثل هذه الأساليب ووسائل الحرب، ويجب التحقيق في الهجمات. نحن مستمرون في مراقبة الغارات وعددٍ من الحوادث التي أدت إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى في جميع أنحاء غزة، بما في ذلك الغارات على المناطق السكنية في جباليا ومدينة غزة والبريج والنصيرات والمغازي وخان يونس. وبالنظر إلى المستوى المرتفع، الذي يمكن التنبؤ به، من الضحايا المدنيين، والنطاق الواسع من الدمار الذي لحق بالمرافق المدنية، لدينا مخاوف جدية جداً من أن ترقى تلك إلىى مستوى هجمات غير متناسبة، في انتهاك للقانون الدولي الإنساني.

 

الغارات بالتحديد على المستشفيات والمناطق المجاورة للمستشفيات في مدينة غزة مكثفة، وخاصة حول أكبر مستشفيين في المنطقة – المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا ومستشفى الشفاء في مدينة غزة. وفي الوقت نفسه، فإن الغارات على المناطق المحيطة تجعل الوصول إلى المستشفيات صعباً، بما في ذلك عن طريق تدمير الطرق.

 

بعض المستشفيات، مثل مستشفى القدس والشفاء، تلقت أوامر إخلاء تضاف إلى تلك التي تلقاها جميع سكان شمال غزة. لكن مثل هذا الإخلاء، كما حذرت منظمة الصحة العالمية، هو بمثابة “حكم بالإعدام”، في سياق ينهار فيه النظام الطبي بأكمله، وحيث لا تملك المستشفيات في جنوب غزة القدرة على استيعاب المزيد من المرضى.

 

إن القانون الدولي الإنساني واضح في هذا الشأن: فهو يوفر حماية خاصة للوحدات الطبية ويتطلب حمايتها واحترامها في جميع الأوقات. وأيُّ استخدامٍ من جانب الجماعات الفلسطينية المسلحة للمدنيين لحماية نفسها من الهجمات يعد انتهاكاً لقوانين الحرب. غير أن ذلك السلوك من قبل المجموعات الفلسطينية المسلحة لا يعفي إسرائيل من واجبها بضمان تجنيب المدنيين تبعات الحرب، واحترام مبادئ التمييز، والاحتياطات أثناء الهجوم، والتناسب. إن عدم القيام بذلك يعد أيضاً انتهاكاً لقوانين الحرب، مع ما يترتب عليه من آثار مدمرة على المدنيين.

 

وبينما يتواصل القصف على غزة من الجو والبر والبحر، فإن الحصار الكامل الذي يستمر الآن لأكثر من شهر يجعل من الصعب على سكان غزة الحصول على احتياجاتهم الأساسية، وحتى البقاء على قيد الحياة، بكل صراحة. يجب وضع حد لجميع أشكال العقاب الجماعي.

 

كما أن مطالبة المدنيين بالانتقال إلى “منطقة آمنة” محددة من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية تثير القلق الشديد. إن ما تسمى “المنطقة الآمنة”، عندما يتم إنشاؤها من جانب واحد، يمكن أن تزيد من المخاطر التي يتعرض إليها المدنيون، وتثير تساؤلات حقيقية حول إمكانية ضمان الأمن على أرض الواقع. حالياً، لا يوجد أي مكان آمن في غزة، إذ ترد تقارير عن القصف في جميع أنحاء القطاع. يجب أيضاً أن يكون واضحاً تماماً أن المدنيين يتمتعون بالحماية بموجب القانون الدولي أينما حلّوا.

 

ما نحتاجه بشكل عاجل – وقد قلت ذلك مرارا، وكررته عند معبر رفح في مصر – هو أن يتفق الطرفان على وقف لإطلاق النار مبني على الضرورات الملحة لحقوق الإنسان، لتوصيل الغذاء والماء والسلع الأساسية الأخرى إلى الأشخاص الذين هم في أمسّ الحاجة إليها، وأينما كانوا، في جميع أنحاء غزة، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وفتح الطريق أمام مخرج مستدام من هذا الكابوس في غزة.

 

كما أناشد السلطات الإسرائيلية، بشكل عاجل، أن تتخذ تدابير فورية لضمان حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث يتعرضون يومياً للعنف من قبل القوات الإسرائيلية والمستوطنين الإسرائيليين، ولسوء المعاملة، والاعتقالات، والطرد، والترهيب والإذلال.

 

لقد كان هذا العام بالفعل الأكثر دموية على الإطلاق بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث قُتل 200 شخص تقريباً حتى قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر – وقد أطلقنا تحذيرات حول ذلك خلال العام الماضي. ومنذ بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر، قُتل ما لا يقل عن 176 فلسطينياً، من بينهم 43 طفلاً وامرأة واحدة، معظمهم بنيران قوات الأمن الإسرائيلية، وثمانية منهم على الأقل من قبل مستوطنين. وأكثر من 2000 فلسطيني تم اعتقالهم واحتجازهم في عمليات قاسية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وقد وثقنا حالات مزعجة من سوء معاملة بحق معتقلين وعائلاتهم.

 

وفي هذا العام، استخدمت القوات الإسرائيلية بشكل متزايد التكتيكات العسكرية والأسلحة في عمليات إنفاذ القانون. يوم أمس وحده، قُتل على الأقل 14 فلسطينياً بنيران القوات الإسرائيلية في مخيم جنين للاجئين. ووقعت أيضاً أربع إصابات أخرى أمس في الضفة الغربية. يجب أن تتم عمليات إنفاذ القانون في الضفة الغربية المحتلة بما يتوافق بشكل صارم مع القانون الدولي لحقوق الإنسان.

 

كما حدثت زيادة حادة في العنف من قبل المستوطنين واستيلائهم على الأراضي في جميع أنحاء الضفة الغربية. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أُجبر ما يقرب من ألف فلسطيني من 15 مجتمعاً رعوياً على الأقل على ترك منازلهم. وفي سياق البيئة القهرية التي يعيشون فيها، قد يرقى تهجير هذه المجتمعات إلى مستوى التهجير القسري للسكان – وهو انتهاك خطير لاتفاقية جنيف الرابعة.

 

أدعو السلطات الإسرائيلية إلى الالتزام بواجبها كقوة احتلال بحماية السكان الفلسطينيين، وإصدار أوامر واضحة لا لبس فيها لقوات الأمن لضمان حماية السكان الفلسطينيين من عنف المستوطنين، ومحاسبة أولئك الذين لا يمتثلون لتلك الأوامر. ومن واجب إسرائيل كذلك ضمان التحقيق الفوري والفعّال في جميع حوادث العنف، وتوفير سبل الإنصاف الفعالة للضحايا. إن استمرار الإفلات من العقاب على نطاق واسع في مثل هذه الانتهاكات أمر غير مقبول وخطير ويشكل انتهاكاً واضحاً لالتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. وآمل أن تكون هناك محاسبة في هذه الحوادث في نهاية المطاف.

 

في الشهر الماضي، قمنا بتوثيق عدة حوادث قام فيها مستوطنون بمنع المزارعين الفلسطينيين من قطف الزيتون، وهو مصدر رئيسي لكسب العيش في الضفة الغربية، بما في ذلك مهاجمتهم بالأسلحة النارية وإجبارهم على ترك أراضيهم وسرقة محصولهم، وتسميم أو تخريب أشجار الزيتون. ويتعرض المدافعون عن حقوق الإنسان بشكل متزايد للتهديد بالعنف إذا قاموا بتوثيق الانتهاكات، وقد سمعت ذلك منهم مباشرة يوم أمس.

 

لقد ظل هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى مكتبي، يدقون ناقوس الخطر على مدى سنوات عديدة بشأن تزايد انتهاكات حقوق الإنسان واستمرار الإفلات من العقاب. وحذروا من أنه إن لم يتم اتخاذ خطوات نحو المسؤولية الجنائية للأفراد واحترام سيادة القانون، فإن الوضع يمكن أن يتدهور ويخرج عن السيطرة.

 

وبدلاً من تشويه سمعة المدافعين عن حقوق الإنسان وسمعة الأمم المتحدة، ومعاقبتهم لتوثيق الانتهاكات، على السلطات ضمان المساءلة، وهي خطوة أساسية نحو تهدئة التوترات في هذا الوقت المضطرب.

 

لقد تعلمنا مراراً وتكراراً عبر التاريخ أن التطرف لا يؤدي إلا إلى المزيد من التطرف. ويجب فعلاً اتخاذ خطوات لكسر دوامة الانتقام والموت والحزن والغضب.

 

إنني أدين بشدة استخدام اللغة التي تجرد الآخرين من إنسانيتهم، وخصوصاً من قبل قادة سياسيين وعسكريين في إسرائيل، وكذلك من قبل حماس. فالرابح الوحيد في مثل هذا السياق هو التطرف الذي يدفع إلى المزيد والمزيد من العنف. يجب على حكومة إسرائيل أن تتخذ جميع التدابير اللازمة لوضع حد لخطاب الكراهية والتحريض ضد الفلسطينيين. بعض التصريحات الصادرة عن مسؤولين رفيعي المستوى ليست فقط بغيضة، بل يمكن أن تصل إلى حد التحريض على الكراهية والعنف. وفي بعض الحالات يمكن أن تساهم في تقديم دليل على نية للقيام بعمليات هجومية بطريقة تتعارض مع قوانين الحرب.

 

وإنني أحث صناع القرار على دراسة وتنفيذ التوصيات الواردة في تقاريرنا العديدة المتعلقة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والابتعاد عن هذه الهاوية التي أوصل إليها تزايد التطرف والعنف.

 

يجب أن تكون هناك تحقيقات ذات معنى ومساءلة لإنهاء دوامة العنف والانتقام ضد مجتمعات برمتها. عندما تُثبت السلطات عدم رغبتها أو عدم قدرتها على إجراء مثل هذه التحقيقات، وحين تكون هناك روايات متضاربة حول حوادث مهمة بشكل خاص، يجب أن يكون هناك تحقيق دولي مستقل.

 

من الواضح أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر، وأنه علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لإنهاء معاناة المدنيين. يجب على الدول الأعضاء ذات النفوذ أن تعمل بجد أكبر من أي وقت مضى لحمل الأطراف على التوصل إلى وقف لإطلاق النار، دون مزيد من التأخير.

 

اوقفوا العنف. أمنّوا سلامة العاملين في المجال الإنساني. اضمنوا الطرق الآمنة كي تصل المساعدات الإنسانية لمن هم بحاجة. تأكدوا من أن لدى الناس ما يكفي من الطعام ومياه الشرب النظيفة والرعاية الطبية والمأوى. اطلقوا سراح الرهائن. قدموا مرتكبي الانتهاكات الجسيمة إلى العدالة بما يتماشى مع قانون حقوق الإنسان.

 

الحل لهذا الوضع هو إنهاء الاحتلال، والاحترام الكامل لحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وكما قلت مراراً وتكراراً: كي ينتهي العنف، يجب أن ينتهي الاحتلال. ويجب على الدول الأعضاء أن تبذل كل الجهود اللازمة لتحقيق سلام مستدام لجميع الفلسطينيين والإسرائيليين.